فصل: تفسير الآيات (16- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (9):

{رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)}.
التفسير:
ومن تمام الإيمان باللّه، وجلاء القلوب من الشرك والزيغ، الإيمان بالبعث والجزاء، فبهذا الإيمان تقوى صلة المؤمن بربه، وتشتدّ مراقبته له، وحرصه على مرضاته، لينجو من شر هذا اليوم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} ويفوز بمرضاته ورضوانه.. وإنه لو لم يكن هناك بعث، ولا حساب، ولا جزاء، لكان الإيمان باللّه مجرد تصور عقلى، لا يكاد يؤثر في سلوك الإنسان، أو يمسك زمام هواه! وإذ يذكر المؤمن هذا اليوم- يوم البعث والجزاء- ويستحضر أهواله، وما يلقى فيه العصاة من عذاب- يخشع للّه ويخضع، ويفكر أكثر من مرة، قبل أن يركب منكرا، أو يواقع معصية.. ولو استحضر المؤمن هذا اليوم، وتمثله في خاطره، وأشهده كل موقف تراوده فيه نفسه على منكر، ويؤامره فيه هواه على معصية- لكان له من ذلك قوة تعينه على الخلاص من دوافع شهواته، ونزوات أهوائه، ولهذا كان مما فضل اللّه به على المؤمنين، أن جعل ذكر هذا اليوم عبادة يتعبدون بها فيما يتلون من كلماته.. {رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ}.
وبهذا تظل أنظارهم شاخصة إلى هذا اليوم، يرجون رحمة اللّه، ويخشون عذابه.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً}.

.تفسير الآية رقم (10):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)}.
التفسير:
وهذا عرض لبعض ما يقع في يوم البعث، وما يلقى فيه الذين كفروا باللّه وباليوم الآخر من نكال وبلاء، حيث يدعّون إلى نار جهنّم دعّا.
فلا يغنى عنهم في ردّ هذا البلاء ما كان لهم من مال وبنين، ومن أهل وصديق، فلقد أفردوا من كل شيء، وصفرت أيديهم من كل شيء، ومنادى الحق يناديهم {لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} [48: الكهف].. وفى هذا ما يفتح أنظار الغافلين عن هذا اليوم، إلى ما فيه من أهوال ونكال، لأهل الزيغ والضلال، فيحذرون هذا المصير المشئوم.

.تفسير الآية رقم (11):

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)}.
التفسير:
الدأب: السعى، والعمل، والحال الذي يبلغه المرء بسعيه وعمله.
وقد ضرب اللّه سبحانه وتعالى للكافرين مثلا بآل فرعون- وهم جماعة الفراعين- الذين استكثروا من الدنيا، وبلغوا من السلطان والقوة ما بلغوا، حيث استطالوا بما في أيديهم من سلطان وقوة، وقال قائلهم للناس ما حكاه القرآن عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى} [24- 25]: النازعات.
هكذا يغرى السلطان ويغوى، إلّا من عصم اللّه، وقد كان فرعون مثلا بارزا للكفران بنعمة اللّه، والاغترار بما مكّن اللّه له في الأرض. فقال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} [10- 14: الفجر].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي الذين سبقوا هؤلاء الفراعين في الضلال والعتوّ، إذ ليس هؤلاء الفراعين هم أول من حادّ اللّه وكفر به، فالكفر قديم في الناس، لا يسلم منه جيل من أجيالهم {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [34: إبراهيم].
وهؤلاء الكفرة جميعا- قريبهم وبعيدهم، سابقهم ولاحقهم- لن يفلتوا من قبضة اللّه، ولن ينجوا من عذابه.. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} إذ انقطع عملهم من الدنيا، وصاروا إلى اللّه بما اقترفوا من أوزار، يحملونها على كواهلهم إلى يوم الجزاء، حيث ينزل بهم العذاب الأليم بما حملوا من كفر غليظ! وفى هذه المثل، وتلك النذر، عبرة لهؤلاء الكفار الذين أعنتوا رسول اللّه، واستطالوا بقوتهم على ضعاف المسلمين بمكة، وسلطوا عليهم ألوانا من العذاب والنّكال.. فلينظروا إلى ما نزل بمن كانوا أشدّ منهم قوة وأكثر بأسا، وأوسع سلطانا.. كيف أخذهم اللّه، فلم يغن عنهم ما كسبوا من اللّه شيئا.

.تفسير الآية رقم (12):

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)}.
التفسير:
فى سكرة السلطان، يفقد كثير من الناس صوابهم، ويضل عنهم رشدهم، فتمرّ بهم العبر وهم عنها غافلون.
وفيما ذكر اللّه سبحانه- مما أخذ به الطغاة والظلمة، ما فيه عبرة ومزدجر للطغاة والظلمة، من كفار مكة.. ولكنهم في سكرتهم يعمهون.
وإنه لكى تنقطع أعذارهم ولا يكون لهم على اللّه حجة، فقد أمر اللّه نبيّه عليه السّلام، أن يلقاهم صراحة بهذا النذير، وأن يقرع آذانهم بما ينتظرهم من مصير مشئوم، إن هم ظلّوا على ما هم عليه من عمى وضلال.. {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ} فلا حظّ لهم في الدنيا ولا في الآخرة.
إذ لا يعصمهم سلطانهم، ولا تمنعهم كثرتهم وقوتهم، من أن يلقوا الهزيمة في هذه الدنيا على يد هؤلاء الذين استضعفوهم واستبدّوا بهم، وهذا من أنباء الغيب التي حملها القرآن عزاء وبشرى للمؤمنين، إذ تلقّوا هذا الوعد الصادق الذي لا يخلف أبدا، فهوّن عليهم البلاء الذي هم فيه، وربط على قلوبهم بالصبر، انتظارا ليوم النصر، وقد جاء تأويل هذا في تلك الخاتمة التي ختمت بها حياة الكفر والكافرين، يوم فتح مكة، يوم جاء نصر اللّه والفتح، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا.
هذا ما كان ينتظر الكافرين في الدنيا، التي ظنوا أنهم يمسكون منها بالسبب القوىّ الذي لا ينقطع.. أما في الآخرة فالأمر أدهى وأمرّ.. حيث تنتظرهم جهنم بسعيرها المتسعر، وعذابها الأليم.. {وَبِئْسَ الْمِهادُ}.

.تفسير الآية رقم (13):

{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)}.
التفسير:
إن يكن ثمّه شكّ عند أحد فيما سيلحق هؤلاء الكافرين المغترّين بكثرتهم وقوتهم على أيدى هذه القلّة المستضعفة من المؤمنين- فالشاهد حاضر بين أيديهم، والآثار ماثلة لهم في أنفسهم.
فهذا يوم بدر- وما زال غبار المعركة منعقدا في سمائه، وجثث قتلى المشركين وأشلاؤهم متناثرة على أرضه، وما زالت فلول الجيش المنهزم تحبو حبوا نحو مكة، مثخنة الجراح، متقطعة الأنفاس، موقرة بالخزي والعار- هذا يوم بدر يمثل لهؤلاء المشركين ما ينتظرهم في مستقبل الأيام، من خزى وهزيمة على أيدى المسلمين، وإن قلّ عددهم وعدتهم، فليس الأمر أمر عدد وعدة، وإنما هو أمر إيمان بالحق. وثبات عليه، واستشهاد في سبيله، ولقد رأى المشركون ذلك بأعينهم، إذ جاءوا بعددهم وعدّتهم، والمسلمون بين أيديهم قلة في العدد والعدة {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}.
فانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [249: البقرة] فليستيقن المؤمنون، ولينتظر المشركون، فإن ما وعد اللّه به واقع لا شك فيه.
هذا والظاهر- واللّه أعلم- أن هذه الآية وما قبلها كان نزولها عقب موقعة بدر، بل ربّما والمشركون في طريقهم بعد الهزيمة، لم يبلغوا مكة بعد، وفى هذا ما يضاعف من حسرتهم، ويملأ قلوبهم يأسا، من كل أمل يتعزّون به في مستقبل الأيام.. فأيامهم المقبلة أشد سوادا وأكثر شؤما من يومهم هذا الذي هم فيه.

.تفسير الآية رقم (14):

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}.
التفسير:
هذا جواب عن سؤال يعرض في كل موقف يتصارع فيه الحق والباطل، وهذا السؤال هو: لم هذا الضلال من الناس؟ ولم هذا الباطل الذي يمسكون به ويحرصون عليه؟
وفى الآية الكريمة الجواب على هذا.
فالناس- كل الناس- مفطورون على حبّ الاقتناء، والاستزادة مما يقتنون، من الأشياء التي تغذّى عواطفهم، وتشبع حاجاتهم الجسدية، والنفسية، وتنزلهم في الحياة منزلا عاليا رفيعا، يبسط لهم سلطانا يستجيب لكلّ ما يدّعون وما يشتهون! هذه طبيعة في الناس، غير منكرة، ولا متكرّهة، لأنها قوة عاملة في الحياة، بها يخفّ الناس إلى السعى والجد، والمغامرة والمخاطرة، ولولاها لما خطت الإنسانية هذه الخطوات الواسعة، إلى العمران والمدنية! وهذا في ذاته خير للإنسانية وكسب للناس.
ولكن الشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه- كما يقولون.
وهذا ما يحدث لغريزة حبّ الاقتناء، إذا جاوزت حدّها، وخرجت عن سنن القصد والاعتدال! إنها تتحول حينئذ إلى شره قاتل، يصير به الإنسان حيوانا ضاريا، يشتبك في صراع دام مع كل من يلقاه! وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ} عرض لصور مما تشتهيه النفس، وتحرص عليه، وتستكثر منه.. النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المعلّمة، والأنعام، والحرث والزرع.. ولم يتحدث القرآن عن الدّور والقصور والأناث والرياش، ولا عن ألوان الطعام، ولا عن الخدم والأتباع، وكلها مما تشتهيه النفوس، وترغب فيه.. لم يذكر القرآن الكريم هذا، ولا كثيرا غيره من مطالب النفس- لأنه ذكر الأصل الذي ترجع إليه كل هذه الأشياء، وهو المال، من الذهب والفضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فبهذا المال ينال كل هذا وأكثر من هذا، فحيث كان المال كان معه الجاه والسلطان، وكل متع الحياة، لمن أرادها من أصحاب المال.
وقد ذكر القرآن النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، لأنها أصول قائمة في النفوس، لا تتغير بتغير الأزمان واختلاف الأمم! النساء رغيبة الرّجال من جميع الشعوب.. الأغنياء والفقراء.
والبنون قرة عين الوالدين، في كل زمان ومكان.. أغنياء وفقراء.
والذهب والفضة.. لهما حب مستقل لذاتهما، حيث يجد الإنسان القوة والعزة، بامتلاكهما، ولو لم يسخرّهما لمأرب من مآربه.
والخيل المسوّمة، أي المعلّمة نموذج للمراكب الطيبة، التي تجمع بين البهجة والمتعة.
والأنعام والحرث، نموذج آخر لمتعة العين وبهجتها لهذا المال المتحرك في الإنعام، والمزدهر الثمر في الزروع والجنات.
وقوله تعالى: {ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} إشارة إلى أن هذا الذي يرغب فيه الناس ويشتهونه في حياتهم، إنما هو متاع وزاد للحياة الدنيا، يزول بزوال هذه الحياة، ويفنى بفناء الطاعمين له.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} إلفات إلى حياة أخرى غير هذه الحياة، لا يزول نعيمها، ولا تفنى لذاذاتها. تلك هي الحياة الآخرة، التي أعدّ اللّه فيها لعباده المتقين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

.تفسير الآية رقم (15):

{قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)}.
التفسير:
ذلك هو حسن المآب الذي أعده اللّه لعباده المتقين.. جاءت هذه الآية الكريمة شارحة له، بهذا الإعلان لذى أمر اللّه نبيه الكريم أن يؤذّن به في الناس، وأن يلفت إليه أولئك الذين غلبتهم شهواتهم، فأذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولم يستبقوا شيئا للآخرة.
وفى قوله سبحانه: {بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ} إشارة إلى أن تلك الشهوات التي زينت للناس من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث- ليست شرا في ذاتها، وإنما فيها خير لمن أخذ منها باعتدال وقصد- كما قلنا- ولكن مع هذا فهناك ما هو خير من هذا الخير، وهو ما أعدّه اللّه للمتقين في الدار الآخرة من جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة.. وفوق هذا كله رضوان اللّه، الذي يفيض الخير كله على أهل الرضا.. جعلنا اللّه سبحانه وتعالى منهم، بفضله وكرمه.
هذا، والملاحظ أن اللّه سبحانه عوّض المتقين في الآخرة عن متع الدنيا وشهواتها، جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأزواجا مطهرة.. ولم يكن فيما عوضهم به الذهب والفضة، ولا الخيل المسوّمة والأنعام، ولا البنين.
فكيف هذا؟
والجواب: أنه لا حاجة إلى ذهب وفضة في الدار الآخرة، وفى جنات النعيم، حيث كل شيء حاضر عتيد لأهل الجنة {لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ}.
فلا بيع ولا شراء هناك.
وكذلك المراكب من الخيل المسومة والأنعام.. إن شاء الإنسان وجدها ولكن هناك ما يشغله عن كل هذا، الذي هو إلى جانب نعيم الآخرة هباء وهراء! والشأن كذلك في البنين، إذ يقوم حبهم في النفس، على غريزة حب البقاء، حيث يرى الإنسان الفاني امتداد حياته في بنيه الذين يخلفونه فيما ترك، ويأخذون مكانه من بعده.. أما والإنسان قد وجد الخلود وضمنه في الحياة الآخرة فإنه لا حاجة به إلى ذرية من بعده.
ثم إن رضوان اللّه الذي أفاضه على أهل الجنة، هو الغنى كله، وهو السعادة كلها.. فلا مطلب بعده، ولا سعادة وراءه.

.تفسير الآيات (16- 17):

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)}.
التفسير:
هاتان الآيتان الكريمتان تبينان المنهج الذي يستقيم عليه الإنسان، ليكون في عداد أولئك المتقين الذين وعدهم اللّه بجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة ورضوان من اللّه.
فالتقوى لا يكسبها الإنسان إلا بمجاهدة، ولا يبلغها إلا بعد أن يقطع إليها طريقا شاقا من الجهد المتصل والعمل الدائب، في طاعة اللّه وابتغاء مرضاته.
وأول هذا الطريق. الإيمان باللّه، الذي هو ملاك التقوى، وبغيره لا يقبل عمل، ولا يؤذن لإنسان بالدخول مع المتقين.. {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ}.
ثم إن الإيمان بلا عمل زرع بلا ماء.. لا يزهر ولا يثمر.
والصّبر هو عدة المؤمنين، وزادهم العتيد في الطريق الشاق الذي يصحبون به الإيمان، ليصل بهم إلى التقوى، فبالصبر يغلب الإنسان شهواته، ويقهر أهواءه، ويحتمل تكاليف الشريعة، ويؤديها على الوجه الأكمل لها.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [52: البقرة] والصّبر ملاك أمره الصّدق.. الصدق في القول والعمل.. والصدق مع النفس، ومع الناس، ومع اللّه- فإذا لم يكن ذلك كان الصّبر بلادة، وموانا، وموقفا سلبيا من الحياة. ولكن إذا واجه الإنسان الحياة ومعه الصبر وجد في كل موقف شاق طريقين: طريق الكذب والهروب، وطريق الصدق والثبات.. وهنا تظهر فضيلة الصبر، ويتجلى أثره.. {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}.
والولاء للّه، والإنفاق في سبيله، وقيام الليل واستقبال الأسحار بالتوبة والاستغفار.. كل هذه مواقف يمتحن فيها إيمان المؤمنين، وصبرهم، واستمساكهم بالحق الذي أمر اللّه به.
فبهذه المجاهدات- مع الإيمان- يبلغ الإنسان منازل المتقين، وينال رضوان اللّه، وينعم بجنات النعيم.